والليلة
تأخر النباح عن وقته المعتاد، فشرع الصمت يثير قلقه، وبعد ما تجاوز الوقت منتصف
الليل، بدأ ينتابه اليأس من سماعه مرة أخرى. لكن نهاية يأسه كانت مفاجئة، إذ انبثق
في الفضاء عويل حزين، عويل أثار شفقته وجعله يقرر تكريس الليلة بكاملها، للانشغال
فقط بمحاولة التوحد مع ذلك الكائن المتواري عن أنظاره.
أسند
ظهره مرة أخرى إلى الجدار الخشن، ثم أغمض عينيه محاولا الغوص في عمق ذلك الكائن،
الذي يقطن كما حدس، أحد السطوح، إذ أن الصوت كان يأتي، كما بدا له، من الأعلى
وليس من الأسفل.
في البدء
كانت التصورات التي كونها عن الكلب جد عادية، وفي ما بعد أخذ يحاول تحديد صنفه
وسنه وحتى لونه... ورويدا رويدا شرع يفكر على نحو غير عادي: "النباح فقط
يستطيع حمل كلب بكامله والسفر به عبر الهواء، ولم لا؟ فها هو يضعه، الآن، أمامي
مجسدا في عمق الظلام... إنه كلب عجوز فنباحه تتخلله بحة الكلاب المسنة، إنه كلب
عادي ولا شك، فنباحه تنقصه رنة الكلاب الأصيلة والمتميزة، مستحيل أن يكون كلبا
ذئبيا أو سلوقيا أو أي نوع أصيل آخر..."
وبينما
كان ذهنه سابحا في بحر هذه التخيلات، انقلب عويل الكلب نباحا، وظل يصدر دون انقطاع،
بين فينة وأخرى يتخلله أنين ضعيف. في خضم توهّماته تلك أوحى له هذا الأنين بأن
الكلب لا بد أن يكون جائعا. وتلقائيا، وجد نفسه يربط هذا الجوع بالهزال، والهزال
بالوضع الكئيب المحيط به، وكذلك بالأوساخ التي رآها لازمة من لوازم الجوع والهزال،
ثم خلص إلى أن الكلب لا بد أن يكون مريضا أو معاقا مثل الكثير من الكلاب المعاقة
التي تتجول في الدروب أو تقطن بعض السطوح القذرة.
أشعل
سيجارة أخرى ثم أخذ منها نفسا عميقا وهو يحاول تحديد لون الكلب. وبعد لأي، قرر أن
مهمة تحديد اللون من أشد الأمور تعقيدا، ولا يستطيع الصوت أن يتضمنها. خصوصا وأن هذا الكلب ينتمي - كما افترض - إلى الأصناف المتباينة ألوانها، لكنه آثر
أن يكون لونه أبيض أو أي لون آخر
يطغى عليه البياض، فقد رأى أن هذه هي الميزة الوحيدة التي تسمح للكلاب العادية
بولوج المنازل. وشعر بأسف على هذا اللون الذي لا بد قد أصبح، كما فكر، ملطخا أو
رماديا أو مائلا إلى السواد بفعل الأوساخ التي لا بد أن تكون قد علقت بفروه.