شعر
بانتشاء جراء تحليله لهذا النباح، ورأى أنه خطا بذهنه خطوة خارقة إذ استطاع عبر
الصوت، ولا شيء آخر غير الصوت، أن يعرف تفاصيل عديدة عن هذا الكلب الذي لم يره قط. وعبر هذا الصوت فقط، تمكن من رؤية هزاله، وتحديد سنه، ولونه، وصنفه، بل وحتى المحيط
الكئيب الذي يعيش فيه.
بغتة،
وفي ما كان لا يزال غائصا في خضم هذا الانتشاء، انتابته فكرة جنونية، فقد قرر فجأة
أن يصدر هو أيضا صرخة، صرخة تحمل معها كيانه كاملا وتحمل كذلك هذا السطح المتسخ،
وتبثهما معا في الفضاء. سيطر عليه هذا المشروع المجنون واستنفذ كل ذرات تفكيره، ولم
ينتظر طويلا، فسرعان ما وضع يديه على شكل بوق حول فمه وصرخ، صرخ بكل ما أوتي من
قوة، وظل يعاود الصراخ مرات عديدة... وبينما جدران المنازل القريبة تتبادل صدى هذه
الصرخات كان هو يستمتع بصراخه. شجعه، على الاستمرار في صراخه هذا، شعور غامض أوحى
له بأن أحدا ما يجلس الآن ساهرا في بهو سطح آخر وأذناه تلتقطان هذا النداء... وظل
يصرخ ويصرخ ويصرخ إلى أن أدركه التعب، فخنق الصراخ بداخله، وأرهف السمع من جديد.
وكان الكلب لما يزل ينبح. وبعد قليل، بَثَّ فيه أنين الكلب إحساسا بأن النباح أشد
تأثيرا في النفس من الصراخ. أزعجه هذا الاستنتاج، ففكر على نحو طعم شعوره هذا، بأن
الجميع من أبناء جنسه يصرخون، الموسرون منهم والمعوزون، وأن لا أحد من هؤلاء ينصت
للآخر. في خضم يأسه هذا بدا له الصراخ مزيفا وعديم الجدوى.
ولأنه
كان مصمما على إرسال كيانه وكذلك وضعه الكئيب عبر الفضاء، عَلَّ ذلك الساهر الآخر
المفترض يلتقط نداءه كما التقط هو نداء الكلب، فقد أقلقه هذا العجز. لكنه وبعزم لا
يعرف الكلل، ظل يفكر في الطريقة المجدية التي تمكنه من تحقيق هذا المشروع، بينما
ظلت أذناه ترهفان السمع لنباح الكلب الآتي من بعيد.
وأخيرا،
وضع يديه حول فمه كما فعل من قبل وبلا مهانة أو إحساس بالذل، نبح، أجل نبح وظل
ينبح، وينبح، والنباح ينتشر، وينتشر في الفضاء مجتازا الكثير من السطوح المجاورة،
وفي أحد السطوح التقطت هذا النباح أذنا رجل يضع يديه حول فمه على شكل بوق.