مرايا الأحلام، المشهد الثاني

وفتح عينيه، وعندئذ، أبصر عالما لم يره من قبل، وأحس برطوبة في عنقه، رطوبة تنبعث منها رائحة عطر تزكي الأنفاس. والأعين، التي انفتحت أجفانها على سيارة تحضنه، وعلى فيلا تحيط به، وعلى حديقة جنبه ظلت مشدوهة مدهوشة. استغرب الأمر؛ فلا شيء مما يراه الآن قد أطبق عليه أجفانه قبل أن ينام، ولا غفا ولا نام، ربما، أصلا، فلا لحظات ما قبل النوم، ولا حياته كلها، تحتمل وجودا سابقا يتذكره. فقط، يتذكر مجموعة من الأحلام، وكأنما الآن، الآن فقط، قد ولد. لا، لا، لم يولد الآن، ففي ذاكرته لغة وعالم وأفكار فقط، كأنما ظل نائما طيلة أربعين سنة. أربعون سنة من عمر افترضه الآن لنفسه، مثلما افترض لها ماضيا لا يحتمل الشك ولا يقبل التغيير. ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لا بد قد عاد الآن من ضيعته، بعد أن استولى على أرض جاره الذي اتهمه بدين لم يسدده، فأخذ الأرض مقابل الدين. ولا بد أنه عائد في الغد إلى الضيعة كي يحميها من جاره الذي حتما سيحاول استرجاعها. ولا بد... ولا بد... ولا بد... ومثلما احتمي بهذه اللابد التي رأى فيها منقذه من الضياع احتمى بمرآة السيارة كي يتعرف فيها على نفسه. وفي المرآة رأى الوجه العابس، الوجه القانط من الوحدة، رأى خلفه كلبه الذي لم يغنه من الوحدة، رأى يده تسحب علبة بيرة من تحت المقعد، رأى الفم وهو يتجرعها دفعة واحدة، رأى يده وهي تضغط على معدنها بعصبية، وهي ترميها من النافذة، وهي تندس في جيب السترة، وهي تخرج علبة السجائر، وهي تبحث عن حافظة نقوده، فلا تجدها، وهي تبحث عنها في الجيب الآخر، فلا تجدها، في بقية الجيوب، لا تجدها، في صندوق السيارة الداخلي، لا تجدها، تحت فراش السيارة، لا تجدها... يبحث ويبحث ويبحث، لكنه لا يجدها. يغضب، يتوتر، يخمن أن أحدا ما قد مد يده عبر نافذة السيارة المفتوحة واستلها من جيب سترته أثناء نومه. يرتبك، يبحث بعينيه عن السارق حول السيارة، لا يجده. في حيز أوسع، لا يجده. في مجال بصره، لا يجده. يبحث ويبحث ويبحث، لكنه لا يجده. يغضب، يتوتر، يلتفت صوب الحديقة فتصطدم عيناه برجل ممدد تحت شجيرة دفلی مزهرة. يفتح باب السيارة الخلفي ثم الأمامي ويتجه نحوه بخطى سريعة وكلبه وراءه.. يقترب منه الكلب، يشمه ثم يرفع إحدى قوائمه ويرشه.
يقترب هو، منه، يرى انتفاخا في جوربه، يركله، يستيقظ الرجل، يسأله عن حافظة النقود. يحاول الآخر أن يجيب لكن الأجفان كانت مثقلة بالنوم... يدس، هو، أنامله في الجورب المنتفخ فيخرج حافظة نقود. لم تكن حافظة نقوده هو. لكنه فكر، وهو يرى النقود الورقية، في انعدام الفرق، وفي أن ما له له وما لغيره له أيضا. يبحث في الجورب الآخر أملا في العثور على وريقات نقدية أخرى، لا يجد شيئا. في الجورب الآخر، لا يجد غير السبسي وكيس الكيف.. في الجيوب، لا يجد شيئا.. ينتزع الحذاء، لا يجد شيئا.. يرمي الحذاء فوق العشب ويقصد السيارة.