مرايا الأحلام ، المشهد الثالث

استلقى على المقعد، وحين التفت كعادته، رآها هناك، على الرصيف المقابل تمشي، رأى مشيتها الرشيقة، رأى قوامها مثل سهم متحفز للانطلاق نحو السماء. وحين رأى اهتزاز ردفيها الذي يموج فستانها فوق تضاريس جسدها لم يعد يرى... وكأن العالم اختفى أو كأن الوجود بكامله تحول إلى امرأة، امرأة واحدة لا شريكة لها، امرأة، أشار لها الآن بيده لكنها تجاهلته.. ثم، وكما خمن، التفتت.. وحين التفتت غمزها بضوء سيارته.. ردت عليه بابتسامة رأى فيها مكرا جميلا.. مبتسما يفتح باب سيارته.. مبتسمة تصعد.. تطبع قبلة على خده الأيمن. ترى رسم فما هناك فتبتسم. يناولها علبة بيرة ويأخذ هو علبة أخرى... ولأنه يشعر بالتعب استأذنها في نوم قصير.
رويدا، رويدا طفق النوم يجتاح أجفانه المتعبة، وبعد لحظات غاص في سبات عميق فانسابت الأحلام الوردية كأنغام شجية تنبعث من مزمار نشيط...
وفتح عينيه، وعندئذ، أبصر عالما لم يره من قبل، وأحس برطوبة في صدره، رطوبة تنبعث منها رائحة طيب ينعش النفس. والأعين، التي انفتحت أجفانها على سيارة تحضنه وعلى فيلا تحيط به ظلت مشدوهة مدهوشة. استغرب الأمر. فلا شيء مما يراه الآن أطبق عليه أجفانه قبل أن ينام. ولا غفا ولا نام، ربما، أصلا؛ فلا لحظات ما قبل النوم، ولا حياته كلها، تحتمل وجودا سابقا يتذكره. فقط، يتذكر مجموعة من الأحلام، وكأنما الآن، الآن فقط، قد ولد. لا، لا، لم يولد الآن، ففي ذاكرته لغة وعالم وأفكاره فقط، كأنما ظل نائما طيلة ستين سنة. ستون سنة من عمر افترضه الآن لنفسه، مثلما افترض ماضيا لا يحتمل الشك ولا يقبل التغيير. ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لا بد قد عاد للتو من ضيعته بعد أن استولى على أرض جاره الذي سلبها للجار الآخر، ولا بد أن يعود إلى الضيعة ليحميها من جاره الذي حتما سيرجع في الغد كي يحميها من الجار الآخر الذي حتما سيعود في الغد ليسترجعها من الجار الذي حتما سيعود في الغد ليحميها... ولا بد... ولا بد... ولا بد... ومثلما احتمی بهذه اللابد التي رأى فيها منقذه من الضياع، احتمى من الوحدة بالنظر إلى الحديقة، بالنظر إلى سيارة متوقفة جنب الحديقة، بالنظر إلى فتاة داخل السيارة؛ فتاة تتزين مستعينة بمرآة واقية الشمس، تعيد رسم فمها بأحمر الشفاه، تحاول استعادة جاذبيتها التي أذهبها السكر، التي أخمدها الرجل النائم جنبها. تحاول وتحاول وتحاول... وهو يحدق فيها، يحدق ويحدق ويحدق... وفي المرآة رأته يحدق فيها، رأته يشير إليها.. رآها ترد على إشارته.. رأته يستغرب الأمر.. رآها تومئ له.. رأته ينزل من سيارته.. رآها تستغرب الأمر.. رأته يقصدها.. رآها تفتح باب السيارة.. رأته ينحني كي يكلمها.. رآها تشجعه.. رأته يتشجع.. سمعها تصرح بسكر الرجل النائم.. سمعته يدعوها للذهاب معه.
والآخر، الآخر نائم. وعندما يستيقظ فليذهب إلى الجحيم.