تقديم الدكتورة لبيبة خمار




حين يغامر القارئ بولوج المرايا فإنه يجد نفسه يقامر بحميميته التي يخترقها الحبر ويعلنها للملأ، كما يقامر بمفهوم الوحدة؛ وحدة الوجود ووحدة الذات والآخر. هذه الوحدة التي تحصَّن وراءها طويلا واتكأ عليها، وهو يرتاد دروب الحياة. هذه الوحدة التي حمته من التصدع والانشراخ الداخلي. وجعلته يغامر بانسجامه وبتوحيد أنفسه التي يراها أمامه تتشظى وتتكاثر. ويغامر بوحدة زمنه الذي تنبثق منه أزمنة أخرى؛ يراها تتوازى أو تتقاطع. كما يغامر ، كذلك، بوحدة مكانه الذي يصير أمكنة حين يطؤها تتلولب ثم تنبسط وتتغير متحركة، تدفع به ليعانق اللامعنى أو ليعانق المعنى الذي يكتشف فيه كابوسية حياته وهي تحوله مسخا بفيض الأحلام وغيث المتمنيات، وبسيل الانكسارات وبجحيم الذات وجحيم الآخر.


لقد أصبح الحلم وسط المرايا تأملا، وأصبحت المرآة معبرا وبرزخا يقود إلى حياة تظل بوهميتها وظليتها تتمتع بالبريق والألق، لأنها حياة الجواني، حياة الوعي المحاصر واللاوعي المقيد بالنسيان والمحكوم بالطمر والإخفاء والكبت والتبكيت، وحياة الذاكرة بالذي تخزنه من مهاوي السقوط. وهكذا أمست الكتابة، بالجرح وبألم الانعكاس وبمرارة الانسلاخ عن الذات والابتعاد عن كنه الإنساني، دفقا وكلا متكاملا ومترابطا يشي بتجنيس يغاير التجنيس الأول.


"مرايا" سعيد رضواني، ليست بالمجموعة القصصية التي تقرأ بالفصل والوصل، وإنما بالنص الملتحم والمرتـَّـق الذي لا يكف يَتَبَنْيَن ويتحرك معيدا تشكله بالتضمين والانشطار والتَّمَرْئي. إنها النص الذي ينزاح عن القصة القصيرة ليناوش الرواية القصيرة المترابطة بانفتاح بنائه، وبشخصياته الدرامية المركبة، وبارتكازه على مقومات شكلية وموضوعية تتيح له الربط والترابط رغم ما يشوب بنيته من تجزؤ وانفصال تعززه عناوين القصص. وهو بهذا الانزياح والازدواجية يبعد عن الجنس الأدبي صفة النقاء والصفاء، لأنه حين توسَّل بالقصة القصيرة ليكتب الرواية استل مرآة من مراياه وراح يلاعب بها ويراوغ الأجناس.


هذا ما خلفته فينا المرايا بعدما تجرأنا ووطئنا أمكنتها. وتجرأنا وتنفسنا هواءها. وتجرأنا واقتحمنا متاهاتها، فترابطت في رؤانا واتحدت، وإن كانت في الأصل محض انفصال.