حين التفت رآها هناك، والبارحة لم تكن هناك، لم تكن في الرف المقابل للمرآة المضاعفة للغرفة الضيقة. رآها، رأى تراقص ضوء المصباح على زجاجها الصقيل، رأى سائلا أصفر في جوفها، رأى على ملصق إشهارها جرذا ميتا، رأى جمجمة وعظمتين متقاطعتين. وحين التفت تجاه المرآة لم ير وجهه. كان شاردا لأن القارورة التي رآها، لم تكن بالأمس هناك. استبعد احتمال أن يكون قد دسها شخص ما، فقد مضى على آخر زائر طرق بابه أكثر من سنة، والبارحة لم تكن هناك.
تذكرها فانتفض، هي أيضا لم تأت منذ أكثر من
سنة، منذ وضع حدا دمويا لإلحاحها. ومذّاك لم تعد تزعجه بطلب أجرة الكراء. لم تأت
منذ قالت له في حلم أول ليلة استطاع أن ينام فيها بعد ثلاث ليال من القلق والأرق " تذكر، عبر زجاج المرآة المضاعف ستراني دائما هناك..."
شل تذكرها قدرة ذهنه على التركيز، ورغبته في طرد
شبحها المخيف من ذاكرته، أدار عينيه نحو اللوحة الطبيعية الوحيدة المثبتة بأعلى
الجدار.
طعَّم قلقه اختفاء القمر على اللوحة والرياح
المنبعثة من جوف لونها الأسود، ومن جديد داهم أذنيه وعيد كلماتها المخيفة:
"تذكر، عبر زجاج المرآة المضاعف، ستراني
دائما هناك".
منذ توقف رنين الجرس عن إزعاجه عند نهاية كل
شهر.. منذ كف صوت العجوز عن الصراخ.. منذ اختفت.. منذ اختفى معها كلبها الذي يؤنس
وحدتها.. منذ... ومنذ... ومنذ... لم يمر عليه يوم دون سماع وعيدها المروع، ودون أن
يرى كلمات وعيدها مكتوبة على صفحة المرآة وعلى الجدار الأبيض وعلى مائدة الطعام وأمام عينيه...
منذ هددته ب: "تذكر..." أدمن على
احتساء قهوته السوداء وتدخين سجائره قبالة المرآة، وأبدا لم ير في المرآة سوى
الجدار المقابل لها وصورة جسده الآخذ في الذبول يوما بعد يوم.
وأمام
المرآة أشعل الآن سيجارة، عب منها نفسا عميقا ثم نظر إلى صفحتها الصقيلة، وحين رأى
جسده يوشك على الفناء، أدرك أن الأجرة التي لم يعد مجبرا على أدائها، قد ظل يؤديها
دائما إلى شبح العجوز بأرقه وقلقه الدائمين.
تجرع
قهوته السوداء دفعة واحدة، ثم هب عازما على التخلص من كل هذه الهواجس...
بعصبية
أمسك بالقارورة، تفحصها لبرهة، ارتعشت يده فارتج السائل الأصفر في داخلها، ثم، وفي
لمح البرق، انساب منسكبا عبر الفم باتجاه البطن فاسحا المجال للهواء كي يستقر
مكانه في جوف القارورة.
أعاد
القارورة إلى مكانها ثم نظر إلى الساعة الحائطية. طويلا ظلت عيناه تحدقان في
عقاربها، طويلا ظلت أذناه تنصتان إلى دقاتها التي يعدها قلبه.
