من
بعيد، ألمح بيتي المهجور. يفقدني الحنين تماسكي فينفلت من يدي، ينفلت العكاز الذي
عليه يتوكأ الجسد الهرم، فأمد اليد المتغضنة، المرتعشة، لأحمله... فأحملها باليد
الغضة، الناعمة، أحمل عصا مستقيمة لا اعوجاج فيها، وكأن الطفولة تمج العِصي
المعقوفة، وكأن تجارب السنين، والركض اللامجدي وراء الأحلام، والسعي المستميت في
الأرض، مجرد اعوجاج على عصا مستقيمة من شجرة الحياة... مجرد اعوجاج أخرق يلزمه البتر.
أحملها
باليد الناعمة وألوح بها في الفضاء، مهددا الحمائم والغربان، أهش بها على الدجاجات
والبط والديوك، ثم أسندها إلى الفخذ الذي أثني ركبته وأمضي مكسرا أعناق الشيح
والخبيزة بقدم من جسدي وأخرى من خشب.
أفتح
باب الحوش، أبعث نحو الأسفل بابتسامة إلى نملة تنوء بحمل حبة قمح، وتسير بها مع
قطار النمل نحو ثقب بالجدار، ونحو الأعلى أبعث بنظرة فضول إلى أفراخ السنونو
الصفراء الصغيرة التي تطل من العش الطيني. أرفع غطاء الخابية المثقل بالرطوبة،
فتطالعني صورتي المائية وهالة ضوء من العمق. أروي ظمئي بالماء، وأروي فرحي بوجودي بتأمل
صورتي التي تتأملني. أصرخ داخل الخابية، فيرتد الصراخ قويا بعد أن تتكسر صورتي في
الماء.
أدغدغ رقبة العجل الأحمر
الممدودة نحوي، ثم أتجه نحو الجرو الصغير فأحرره من السلسلة، وبعد أن نتسلل إلى
داخل البيت نغير على أثاثه بالكسر والتهشيم. ولا تنتهي الغزوة إلا بصفعة أتلقاها
من يد أبي على رقبتي. وقبل أن أخرج أنحني كي أحمل عصاي.... فأحملها باليد المتشنجة
وأضعها في فمي ثم أشعلها، أشعل سيجارة وآخذ منها نفسا عميقا، ثم أمج دخانها في
الفضاء، فأحس بارتخاء في جميع أعضائي المتشنجة وكأن الرتابة /القنوط/الفراغ/التذمر... فقاعات أحاسيس تجثم داخل الصدر، فقاعات أحاسيس تنتظر ركوب سحابة
السيجارة كي تحررها من
أسر يخنقها فيه الهواء الملوث بالتنهد.