ذهاب وإياب، المشهد الثاني

تجنبا للدوار غصت بعيني في زرقة السماء اللامتناهية. زرقة السماء أخذت تذوب في زرقة أخرى؛ في زرقة الأقلام المحبوبة التي كان ابني يفضل لونها أثناء الكتابة، زرقة تتلألأ فوق بياض الأوراق، زرقة تنتهي حيث يبدأ اللون الأسود للحروف المطبوعة التي سافر ابني من خلالها إلى الكثير من العوالم والأزمنة. يختلط في ذهني الأسود بالأزرق، بالأبيض، وينبثق منها لون أتمنى أن أتنازل عن كل ما أملك لأملكه.
أعادني إلى واقعي شخير قوي يصدر من أحد الركاب، شخير قوي ومزعج؛ حقيقته لا تقبل الدحض، حقيقته أقوى من أن تتبلبل بوساوسي. لم يكن صاحب هذا الشخير وحدة النائم، بل كل الركاب تقريبا ... فكرت أن من يسافر على مثل هذه الحافلة ليسوا أناسا فقط، بل أضمومة من الأحلام، من الأمكنة، من المصائر المتعددة والمختلفة... آه لو استطعت التسلل إلى هذه الأحلام...
أنظر إلى ساعتي، الرابعة زوالا، وصلت متأخرا بساعات. أنزلتني الحافلة عند مدخل درب يتجه مباشرة إلى الضيعة. دون انتظار أخذت أسير بين صفين من الصبار. بدا لي المنظر جميلا، مألوفا، كما تركته منذ سنين. بخطى حثيثة أسير، وكأن للموت سحرا يجذبني إليه.
أنظر إلى ساعتي، الرابعة زوالا، وصلت متأخرا بساعات. أنزلتني الحافلة عند مدخل درب يتجه رأسا إلى الضيعة. ببطء أخذت أسير بين صفين من الصبار. بدا لي المنظر حزينا، مختلفا عمَّا تركته عليه بالأمس. بخطى بطيئة أسير، وكأن للموت قوة معاكسة تدفعني عنه.
ابتدأت صفوف المعزين أو المهنئين حيث انتهت صفوف الأشجار أسير بين الصفوف كما يليق بأغنى رجل في القرية، رافعا رأسي، دون أدنى تظاهر بالحزن. في عيون الرجال أرى الحسد والاحترام، ومن خلف الصفوف يتصاعد صوت نواح الباكيات المأجورات. عندما اجتزت آخر رجل في الصفوف، سلمني وكيل أعمال والدي الوثائق التي أصبحت بموجبها مالك أملاكه. هجست لنفسي: "ليحزن كل يتامى العالم أما أنا فلا".
ابتدأت صفوف المعزين حيث انتهت صفوف الأشجار. أسير بين الصفوف مثقلا بالأحزان كأفقر رجل في القرية، مطأطئا رأسي، دون أدنى شعور بالعزاء. في عيون الرجال أرى التشفي مجسدا، ومن خلف الصفوف يتصاعد صوت نواح الباكيات المأجورات. عندما اجتزت آخر رجل في الصفوف، سلمني وكيل أعمالي رزنامة من الكتب والأوراق قائلا: "وجدناها معه حيث مات في أحد مقاهي الدار البيضاء". سلمني الكتب والأوراق التي لفرط ولع ابني بها طردته من الضيعة ومن باقي أملاكي. الكتب والأوراق التي تختزل كل عالمه. أجهشت بالبكاء ثم هجست لنفسي: "ليفرح كل أغنياء العالم أما أنا فلا."