وصيتان، المشهد الثاني

زمت شفتيها واختفت ابتسامتها المغتصبة وزاغت نظراتها، ولست أدري إن كانت حواسها ما زالت قادرة على استيعاب هذا الفضاء الذي يؤثثه سرير أبنوسي ودولاب من طراز عتيق وصف من الأرائك وثريا متفرعة المصابيح تعيد للحجرة ضوءها وبهاءها الذي طمسه الليل، وغيرها من الأشياء التي بدت لي، الآن، نفس الأشياء التي كانت تؤثث الفضاء الذي شككت في أن حواسه لم تعد قادرة على استيعابه عندما زاغت نظراته وزم شفتيه واختفت ابتسامته المغتصبة، وتشنجت عضلاته، وانقلبت حمته برودة وبعدها أصبح جسده ساكنا مثلما أصبح جسدها، الآن، بعد أن تشنجت عضلاته وانقلبت حمته برودة، مجرد قطعة من جماد.
لحظة الوقوف أمام جسد ميت يعمل الذهن دون شعور على تأمل تلك الحياة التي انتهت بغية تقييم تجربتها، وهكذا وجدتني دون شعور بالخزي، وربما كان ذلك دفاعا مني عن فقري، أسخر من مسيرة حياتها التي لم يمهلها الموت حتى تستنفذ كل ثروتها مثلما سخرت من مسيرة حياة أبيها الذي لم يمهله الموت حتى يستنفذ كل ثروته التي رأيتها الآن، كما من قبل، أجمل، وهي في الطبيعة تركض قطعانا، منها وهي ممسوخة منازل وفيلات ومعامل وأثاثا ورصيدا بنكيا...
ظللت أحملق تارة في الأثاث الذي بدا لي مجرد مسوخ لجلود كلاب نتيجة صيرورة تجارية طويلة، وتارة أخرى أنظر إلى كلبها الذي ينبعث من نظراته حزن غامض على سكون جسد صاحبته مثلما انبعث من نفس العينين نفس الحزن على سكون جسد صاحبه الذي استأنسه بعد أن غيبت إحدى رصاصات بندقيته أمه عن الغابة.. أنظر إلى هذا وذاك الحزن بحزن وأنا أرى في عيني هذا الكلب صدقا طبيعيا صافيا... وحين أطرقت رأسي لمحت الوصية في يدي.
وفتحت وصيتها؛ وبدا لي مستحيلا أن تتضمن هذه الورقة التافهة المسودة ببضع قطرات من الحبر والمخربشة بمتاهة من الرموز، متاهة من أملاكٍ قفزت بعيني فوقها كي أتعرف مباشرة على الاسم الذي زكاه توقيعها كي يغدو مالكا لأملاكها مثلما قفزت بعيني، حين فتحت وصيته، فوق نفس المتاهة من الأملاك التي تضمنتها ورقة أخرى تافهة لأتعرف مباشرة على الاسم الذي زكاه توقيعه كي يغدو مالكا لأملاكه، ولم أندهش حينها وأنا أرى كامل أملاكه تؤول إلى ابنته "ديانا" مثلما اندهشت الآن وأنا أرى كامل أملاكها تنتقل إلى الكلب البري المستأنس "دوكي".