همس، المشهد الثاني

كادت تنسى وجود "دوكي" معها حين شرعت بعد أن أغمضت عينيها تخال نفسها وحيدة تحتضن طيف "سليمان" وسط هذه الجدران الصامتة، لكنها سرعان ما أدركت بعد أن سمعت صوت لهاث رتيب أن كائنا آخر يشاركها الوجود في هذا المكان. وفي الحال تلاشى طيف "سليمان" عن خيالها بعد أن أحست بدفء أنفاس هذا اللهاث. استرقت النظر إلى "دوكي"، فرأت عينيه تشعان وتحدقان في جسدها. أرهبها بريق عينيه الآسر، فهجست لنفسها وهي تحاول أن تزيح عنه بصرها: "عينا إنسان".
ظلت حائرة، تفكر في العمل الذي ستبتدئ به، وحين تنبهت لوجود المريشة في قبضة يدها، تقدمت تلقائيا، بخطى آلية، وأخذت تنتقل عبر أرجاء الليفينغ روم، وبين لحظة وأخرى، تمرر أهداب المريشة المخملية على الأشياء التي تقاسمها الوجود في هذا المكان؛ منفضة الكريستال، أيقونات المرمر، خشب الدولاب اللامع، كل هذه الأشياء بدت لها وهي تزيل عنها الغبار، كأنما تدب فيها الحياة، وكما لو أنها تبتسم وتحيا وتمتص أكثر أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة. أطلت "سعاد"، فلاحت لها كراسي الحديقة، وحوض السباحة، والبرجولا حيث يحلو لـ "رانيا" أن تتناول فطور صباح يوم الأحد هناك.
أخذ النسيم يداعب شعرها، بينما في ذهنها كانت تتراقص انطباعات عديدة حول "دوكي". رنات صوت "رانيا" "اعتني بدوكي جيدا يا "سعاد"، وعظمة هذا الكلب الذئبي الضخم، وسمتا نفسها بشيء من المهابة تجاه هذا الكائن الذي يحتل مكانة رفيعة في البيت، ويتحرك بحرية تتجاوز الحدود التي رسمتها هي لحريتها منذ دخلت هذا البيت. في خضم هذه التأملات، أحست ولأول مرة برغبة عارمة في تجاوز هذه الحدود اللامرئية، فتنهدت تنهيدة عميقة ثم أدبرت عائدة إلى عمق الغرفة، تاركة النافذة مفتوحة كي يتسلل مزيد من النسيم إلى داخل البيت.

   انحنت مبرزة ردفيها المكتنزين، فأحست بهما قد ابتلعا شريط تبانها  الرقيق، ثم همت تريد مسح الطرف الأسفل للمرآة الحائطية الطويلة. هناك وعبر زجاجها العاكس لغرفة البيت لمحت عيني"دوكي" تحدقان في مؤخرتها. توقفت عن المسح وأخذت ترنو إلى عينيه البراقتين، ثم هجست لنفسها مرة أخرى "عينا إنسان". استقامت، وبشيء يشبه الحياء أغمضت عينيها كأنما تحاول استعادة توازن نفسها، وأرهفت سمعها فكاد الصمت يطبق على أذنيها لولا تكتاك الساعة الحائطية وصوت لهاث "دوكي" الرتيب، ثم فكرت على نحو مفاجئ بأن سليمان قد يكون الآن صحبة تلك العجوز الدرداء التي تنغص حياتهما، ربما هما الآن هناك يتبادلان القبل، أو ربما يتناکحان في مكان خفي داخل أحد الأكواخ. شعرت بحقد على تلك العجوز، فضمت قبضتها بقوة، وهجست في غضب بكلمات خرجت من بين أسنانها: "سأخنقها إن رأيتها معه مرة أخرى".